دراسة موجزة وهامة تتعلق بشرح المفهوم القرآني للروح و النفس ..
يخلط بعض الناس في اللغة الدارجة بين النفس والروح , فيقولون أن فلانا طلعت روحه , أو أن روحه اطمأنت أو تتعذب و كل هذه التعابير خاطئه , لأنها في الحقيقة أحوال تخص النفس وليس الروح .
يبين لنا القرآن الكريم أن ما يخرج من بدن المحتضر عند الموت والحشرجة هي نفسه و ليست روحه , حيث يورد لنا قول الملائكة لل...مجرمين لحظة الموت :
( أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون ) (الأنعام:93)
وكذلك يبين لنا القرآن الكريم أن النفس هي التي تذوق الموت وليس الروح , يقول الله تعالى :
( كل نفس ذائقة الموت ) . (آل عمران :18) .
ونجد هنا ان النفس تذوق الموت , ثم تمضي بعد ذلك في رحلة إلى ربها عز و جل,يقول تعالى :
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية). ( الفجر :27 )
والأنفس في القرآن الكريم تتدرج في مدارج ثلاثة :
أولا : النفس الأمارة بالسوء :
قال ربنا عز وجل :
( إن النفس لأمارة بالسوء ) ( يوسف : 45 )
وهذا يعني أن النفس تغري صاحبها بالشر و السوء وبذلك تدفعه بعيدا عن تحصيل كماله الأخلاقي , وتحثه على اتباع السبل السيئة والشريرة.وهذه الحال الطبيعية تسيطر على عقل الأنسان قبل دخوله المرحلة الأخلاقية التي هي مرحلة ( ا لنفس اللوامة ) .
ثانيا : النفس اللوامة :
وهي مصدر الحالة الأخلاقية عند الإنسان , قال عز و جل :
( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) ( القيامة :3 )
و تدفع هذه النفس الإنسان إلى التخلص من أسر النفس الأمارة , كما تدفعه إلى اتباع السلوك الأخلاقي الراقي , و ضبط الغرائز الطبيعية والسيطرة عليها وعلى العواطف والرغبات و تنظيمها بفعل العقل .
ولقد شرف الله عز و جل هذه النفس حين أقسم بها .
ثالثا :
ا لنفس المطمئنة :
وهي تشكل بداية المرحله الروحية لدى الأنسان , قال ربنا تعالى
(يا أيتها النفس المطمئنة , ارجعي إلى ربك راضية مرضية , فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي ) ( الفجر :28 -31 )
و هذه هي المرحلة التي تمتلئ فيها نفس الإنسان بالطاقات الروحية و تؤسس صلة بالله عز و جل , وتأتي هذه المرحلة بعد أن يكون الإنسان قد تخلص من كل ضعفه و نقائصه .
تلك إذاًهي مدارج النفس الثلاثة . فالنفس تطوع لصاحبها العمل الخاطئ والشرير. :
( ًفطوعت له نفسه قتل أخيه ) (المائدة : 30 )
و هي أيضا شيطان الإنسان الذي يوسوس له :
( ولقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه ) ( ق : 16)
و هي أيضا التي تسول لصاحبها , و تضيق عليه , و تزهَق , و تأمره بالشح , جاء في القرآن الكريم :
( بل سولت لكم أنفسكم ) ( يوسف : 18 )
(و ضاقت عليهم أنفسهم ) ( ا لتوبة : 18)
( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم ) ( التوبة : 55 )
( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ( الحشر : 90 )
( و أحضرت الأنفس الشح ) . ( النساء : 128 )
فالنفس هي المتهمة في القرآن الكريم بالشح والوسواس و السوء والفجور و الطبيعة الأمارة أو اللوامة , وللنفس في القرآن ترق و عروج , فهي ممكن أت تتزكى و تتطهر , قال تعالى :
(ونفس و ما سواها , فألمها فجورها و تقواها ) ( الشمس : 807)
أما الروح في القرآن الكريم , فتذكر دائما بدرجة عالية من التقديس والتشريف , ولا يذكر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة أو شوق أو تطهر أو تدنس أو رفعة أو هبوط أ ضجر أو ملل , ولا يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت .. ولا تنسب إلى الإنسان , وإنما تأتي منسوبة دائما إلى الله .
يقول تعالى :
ً( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) ( سورة مريم : 17 )
و في قصة آدم يقول عز و جل :
( فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) فها ربنا هنا يقول " روحي "و لا يقول روح آدم ( و أيدهم بروح منه ) ( المجادلة : 22 )
نجد كلمة الروح هنا أيضا منسوبة إلى الله تعالى .
و في التعبير القرآني جاءت كلمة الروح تعني القرآن الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم , قال تعالى :
(و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) ( الشورى : 52 )
والروح في القرآن هي وحي الله لعباده المرسلين:
( يلقي الروح على من يشاء من قومه لينذر يوم التلاق ) ( غافر : 15 )
نجد من هذا البيان القرآني الواضح أن الروح في كتاب الله عز وجل تأتي دائما منسوبة إلى الله , و هي دائما في حركة من الله و إلى الله , ولا تجري عليها الأحوال الإنسانية ولا تكون محلا لشهوة أو شوق أو عذاب , ولهذا فقد جاءت في القرآن الكريم في موضع تكريم و تشريف من الله سبحانه و تعالى .
فالروح إذاً هي غير النفس , و هي نفخة الخالق فينا , ولكل منا نصيبه منها , قال تعالى في قصة خلق آدم :
( إني خالق بشراً من طين , فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ( ص : 71,72 )
و ما حدث من أمر التسوية والتصوير و النفخ في صورة آدم يعود فيتكرر في داخل الرحم في الحياة الجنينية لكل منا .. فيكون لكل منا تسوية و تصوير , ثم نفخة ربانية حينما تتهيأ الأنسجة و يستعد المحل لتلقي هذه النفخة .. و ينتقل الخلق بهذه النفخة من حال إلى حال ، قال ربنا :
( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) ( المؤمنون : 14,15 )
فيقول عند النفخة : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) .. إشارة إلى نقلة هائلة من المضغة المكسوة بالعظام إلى خلق لا يقدر عليه إلا أحسن الخالقين .. و ذلك بالنفخة الربانية .
و يتكلم القرآن عن هذا النفخ في الجنين بعد تسويته في آية أخرى عن نسل آدم :
ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين و نفخ فيه من روحه و جعل لكم السمع و الأبصار والأفئدة ) السجدة : 8,9 )
وبفضل هذه النفخة يصبح للواحد منا خيال وضمير وقيم وعالم من المثل .
وأما علاقة نفس كل منا بروحه و جسده فهي أشبه بعلاقة ذرة الحديد بالمجال المغناطيسي ذي القطبين .
والذي يحدث للنفس دائما هي حالة استقطاب .. إما إنجذاب و هبوط إلى الجسد .. إلى حمأة الواقع وطين الغرائز و الشهوات , و هذا هو ما يحدث للنفس الجسدانية الحيوانية حينما تشاكل الطين و تجانس التراب في كثافتها. . أو يحدث للنفس انجذاب و صعود إلى الروح إلى سموات المثال و القيم و الأخلاق الربانية , وهو ما يحدث للنفس حينما تشاكل الروح و تجانسها في سموها و لطفها و شفافيتها .
تكون النفس طوال الحياة في حركة تذبذب و استقطاب بين القطب الروحي , و بين القطب الجسدي .. مرة تطغى عليها ناريتها و طينتها , و مرة تتجلى فيها شفافيتها و طهارتها .
والجسد والروح هما مجال الإمتحان والإبتلاء , حيث تبتلى النفس و تمتحن بهاتين القوتين الجاذبتين إلى أسفل و إلى إعلى لتخرج سرها و تفصح عن حقيقتها و رتبتها و ليظهر خيرها وشرها