بيان تحريم مـوالاة أعـداء الله
نهى الله سبحانه وتعالى عن موالاة أعدائه في مواضع كثيرة من القرآن ، وأخبر أن موالاتهم تنافي الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وأنها سبب للفتنة والفساد في الأرض ، وأن من والاهم ووادهم فليس من الله في شيء وأنه من الظالمين الضالين عن سواء السبيل ، وأنه مستوجب لسخط الله وأليم عقابه في الآخرة ، والآيات في هذا كثيرة .
الأولى منها : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمــــودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } إلى قوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } ثم حث تبارك وتعالى عباده المؤمنين على متابعة خليله إبراهيم والتأسي به وبمن آمن معه في مصارمتهم لأعداء الله تعالى والتبري منهم ومما يعبدون من دون الله تعالى وإظهار العداوة لهم والبغضاء ما داموا على الكفر بالله ، فقال الله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننـا وبينكم العداوة والبغضـاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } ومن لم يتأسى بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في مصارمة أعداء الله تعالى وإظهار العداوة والبغضاء لهم ، فله من سفه النفس بقدر ما ترك من ملة إبراهيم الخليل ، كما قال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } .
الآية الثانية : قوله تعالى : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } .
الآية الثالثة : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخـرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .
الآية الرابعة : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ثم حذر تبارك وتعالى من موالاتهم بأبلغ التحذير وتوعد على ذلك بأشد الوعيد فقال تعالى : { ومن يتولـهم منكم فإنّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظـالميـن } قال بعض المفسرين : فيه زجر شديد عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة .
قلت : وأقل الأحوال في هذه الآية أنها تقضي تحريم موالاة أعداء الله تعالى وإن كان ظاهرها يقتضي كفر من تولاهم ، ولهذا روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر وتلا هذه الآية . وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال : قال عبدالله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر . قال : فظنناه يريد هذه الآية .
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصـرانيا قال : مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ألا اتخذت حنيفا . قال : قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه . قال : لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله .
وورد على عمر رضي الله عنه كتاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : أما بعد يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبا نصرانيا لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك . فكتب إليه : عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني ، أما بعد فإن النصراني قد مات ، والسلام . يعني يقدر موت هذا النصراني فما كان معاوية صانعا بعد موته فليصنعه الآن ، وهذا أمر من عمر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه بإبعاد النصراني وتولية غيره من المسلمين مكانه من غير مراجعة وإخبار له بأن المسلمين في غنية عن أعداء الله ولو كانوا في الحذق والضبط ما كانوا .
وفي قول عمر رضي الله عنه دليل على أنه لا يجوز للمسلمين أن يولوا في أعمالهم أحدا من أعداء الله تعالى لأن في ذلك إكراما لهم وإعزازا وإدناءا وهو خلاف ما شرعه الله من إهانتهم وإذلالهم وإقصائهم .
ثم قال تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } قال ابن كثير رحمه الله تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض } أي شك وريب ونفاق { يسارعون فيهم } أي يبادرون في مولاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك ، قال الله تعالى : { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } .
الآية الخامسة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وهذا نهي من الله تبارك وتعالى عن موالاة أعدائه من أهل الكتابين وغيرهم من سائر الكفار وإخبارا منه تعالى بأن موالاتهـم تنافي الإيمـان ، ولهذا قال تعالى : { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } قال أبو جعفر بن جرير في تفسير هذه الآية : لا تتخذوهم أيها المؤمنون أنصارا وإخوانا وحلفاء فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة اهـ .
الآية السادسة : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره : ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم , وقوله : { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } أي حجة عليكم في عقوبته إياكم اهـ .
وقال أبو جعفر بن جرير يقول : لا تعرّضوا لغضب الله بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به اهـ .
الآية السابعة : قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } وهذا زجر بليغ وتهديد شديد عن موالاة أعداء الله تعالى وموادتهم ، فينبغي للمسلم أن يحذر أشد الحذر من أن يكون من الذين يحسبون أنهم على شيء وهو من الخاسرين الذين ليسوا من الله في شيء عياذا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه . قال المناوي في شرح الجامع الصغير : الإقبال على عدو الله وموالاته توجب إعراضه عن الله ومن أعرض عنه تولاه الشيطان ونقله إلى الكفر اهـ . قال الزمخشري : وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان اهـ .
ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث في الكافية الشافية يقول :
أتحب أعداء